القوانين الاستثنائية و شرعية النظام السياسي
المصري
بقلم:كمال حبيب
تواجه الدولة المصرية منذ عام 1952 م
أزمة شرعية عميقة بسبب حكم العسكر لها ، فتحت وهم زائف بأنه لا صوت يعلو
علي صوت الدولة ( المعركة ) تم تأميم قوي المجتمع المصري الحية لصالح ضرورات
الدولة ومتطلباتها ، ولم يكن ذلك ممكنا بدون استخدام القوانين الاستثنائية وعلي
رأسها قانون الطوارئ الذي دشنه عبد الناصر عام 1954 م بعد حادث المنشية الشهير .
واستخدم قانون الطوارئ من جانب حكم ناصر العسكري لتصفية خلافاته مع القوي
السياسية المختلفة وعلي رأسها الإخوان المسلمين الذين اقتيدوا للسجون في عامي 1954م
و1965 م وتم تنفيذ عدة أحكام بالإعدام في العامين كان أبرزها الحكم بالإعدام في
المرة الأولي علي القاضي " عبد القادر عودة " صاحب كتاب " التشريع
الجنائي في الإسلام " وفي المرة الثانية علي المفكر الإسلامي " سيد قطب "
صاحب الكتاب الأشهر " معالم في الطريق " ، وبعد هزيمة الدولة المصرية في
عام 1967 م ، توقف التعذيب المرعب في السجون العسكرية والمدنية المصرية ضد معارضي
عبد الناصر الإسلاميين ، وكانت ظاهرة التوقيع بالدم لعبد الناصر تحت سياط التعذيب
من جانب معارضيه المعتقلين ظاهرة غريبة وشاذة علي الحياة الاجتماعية والسياسية
المصرية
ولم يعد ممكنا تأميم صوت المجتمع لصالح دولة عجزت عن الوفاء بالتزاماتها
تجاه حماية التراب الوطني ، وهزمت هزيمة منكرة أمام إسرائيل التي كان عبد الناصر
يقول أنه سيلقي بها في البحر ، وهنا عرفت مصر تظاهرات
الطلبة عام 1968 م ، وعندما جاء السادات محاولاً إرساء تعددية حزبية بعد المنابر
عام 1976 م ألغي قانون الطوارئ المقيت ، ولكنه بعد زيارته للقدس عام 1977 م وبزوغ
احتجاجات قوي المجتمع المصري ضد سياساته الداخلية والخارجية ظهر ما عرف باسم
القوانين السيئة السمعة كقانون المدعي الاشتراكي وقوانين محاكم أمن الدولة بل
والمحاكم العسكرية التي حوكم أمامها إسلاميون من تنظيم الفنية العسكرية وتنظيم
التكفير والهجرة ، ولكنه لم يعد العمل بقانون الطوارئ .
ومع مجئ " حسني مبارك " للسلطة عام 1981
م بعد حادث اغتيال السادات الشهير أعلنت حالة الطوارئ وبدأ العمل بقانون الطوارئ ،
وعلي مدي أكثر من ربع قرن هي مدة حكم مبارك ومصر ترزح تحت حالة الطوارئ ويحكمها
قانون الطوارئ المقيت الذي وضع شرعية الدولة المصرية في الميزان بحيث أصبحت
تعبيراً عن دولة خائفة ومذعورة من مجتمعها وغير واثقة في نفسها إلا بالاستناد إلي
حالة الطوارئ وقانون الطوارئ ، وأدي العمل المستمر بحالة الطوارئ إلي تجريف الحياة
السياسية المصرية وإعلان وفاة السياسة في مصر وعدم الثقة بها
.
وبدت السنوات الأولي لحكم مبارك وكأنها تحاول ترميم ما أحدثته سياسات سلفه
السادات التي بلغت قمة تهورها مع وضع كل معارضيه السياسين
في السجن (5000) مرة واحدة تحت مسمي التحفظ ، مع وعود من جانب الرئيس الجديد بأنه
لن يبقي في الحكم أكثر من دورتين ، ولكن الرئيس في النظام المصري يأتي إنساناً
طبيعيا لكنه لا يلبث أن يتحول إلي فرعون مع تمكنه من
الإمساك بناصية جهاز الدولة المصرية العتيق ، ومع بدايات العنف مع الجماعات
الإسلامية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات بدأت الدولة المصرية تستخدم
أدوات خارج القانون وحتي خارج حالة الطوارئ ذاتها وكان
أبشعها وأكثرها خطورة علي الإطلاق ما يعرف بظاهرة " الاعتقال المتكرر" ، فوفقا لقانون الطوارئ لم يكن المعتقل السياسي
الذي لا يقدم لمحاكمة - يبقي في السجن
أكثر من شهرين حيث يقدم تظلماً للمحكمة من اعتقاله بعد شهر فتأمر بالإفراج عنه ثم يعترض وزير الداخلية علي
الإفراج فيبقي المعتقل مسجوناً لمدة شهر آخر حتي يقدم
تظلماً جديدا فيصبح الإفراج عنه وجوبياً لا تملك الدولة
إبقاءه في السجن ، وكان قانون الطوارئ ذاته يتضمن آلية حل مشكلة الاعتقال السياسي
، ولكن مع تفتق الذهن الأمني عن " ظاهرة الاعتقال المتكرر " البشعة فقدت
الدولة شرعيتها كدولة قانون ، وتحولت إلي
زمرة أو عصابة تعمل خارجه ، أي أن الدولة ذاتها التي من المفترض أن تطبق القانون
هي التي تقوم بالتحايل عليه وعدم تنفيذه ،
وأصبحت تعمل خارجه .
وظاهرة" الاعتقال المتكرر "
هي التي ضخمت ملف الاعتقال السياسي المصري للإسلاميين وجعلته ملفاً صعباً ومعقداً
، فأجهزة الأمن تفرج عن المعتقل السياسي بعد شهرين علي الورق فقط ، وتقول علي
الورق أيضا ً أنه أفرج عنه وعاد لبيته وعاد لمزاولة نشاطه السياسي ضد الدولة وأعيد
اعتقاله ، ولدينا أمثلة حصلت علي عشرات القرارات
من المحاكم بالإفراج عنها ولكنها ظلت رهينة الحبس والاعتقال لدرجة أن غالب
المعتقلين السياسيين توقفوا عن تقديم تظلمات ضد اعتقالهم حتي
لا يتعرضوا للانتقال من السجون إلي مقار أمن الدولة حيث يهدد استقرارهم ويرسلوا من
جديد إلي سجون جديدة مع ما يصاحب ذلك من تعذيب وإهانات
وتوتر أهل المسجون وبحثهم عنه من جديد للاطمئنان عليه .
وواكب " ظاهرة الاعتقال المتكرر " التوقف تماما عن تنفيذ القانون
بالإفراج عمن انتهت مدة أحكامهم من المساجين السياسيين ، فمنذ عام 1991 م لم يفرج
عن أي مسجون سياسي أنهي مدة حكمه ، ونتيجة لذلك بقي في السجن من صدرت ضدهم أحكام
في قضية اغتيال السادات وقضية تنظيم الجهاد وقضية تنظيم طلائع الفتح أي أن المسجون
السياسي الذي كان مفترضاً أن ينهي حكمه عام 1996 م ( حكمه 15 سنة ) أعيد اعتقاله حتي
اليوم ، ومن كان مفترضاً أن ينهي حكمه عام 2001 م ( حكمه المؤبد – الأعراف المصرية
لا تبقي سجيناً في السجن أكثر من 20 سنة ) – أعيد اعتقاله هو الآخر حتي اليوم، ومن ثم فالسجون المصرية بها
معتقلون سياسيون محبوسون منذ عام 1981 م وعلي رأسهم المقدم " عبود الزمر "
.
لم يكن أمر الاعتقال المتكرر هو العمل الذي تقوم به الدولة المصرية خارج
إطار قانونها ولكنها ابتدعت تقديم المتهمين الإسلاميين إلي المحاكم العسكرية ، وهي
محاكم إدارية تخضع مباشرة لسلطة رئيس الدولة المصرية باعتباره القائد الأعلي للقوات المسلحة ، وأمام هذه المحاكم أعدم مايزيد علي المئة شخص من الجماعات
الإسلامية الجهادية في قضايا العائدون من أفغانستان والعائدون من ألبانيا وقضايا
طلائع الفتح بتشعباتها العديدة ، وهو ماوصفته دوائر حقوقية بأنه قتل للمعارضين الإسلاميين تحت ستار
محاكم تفتقد لقواعد الثقة والاطمئنان( أحكامها نهائية لا تعقيب عليها ) التي تتميز بها
المحاكم الطبيعية .
ولم يكن الذين قدموا لمحاكم عسكرية الجماعات المسلحة فقط بل قدم إليها
أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين مرتين علي الأقل عام 1993 م وعام 1995 م وصدرت
ضدهم أحكام تراوحت بين ثلاث وخمس سنوات ،بيد إن الأمر لم يقتصر علي ذلك فقط بل
أصبحت السجون ساحات للتعذيب الوحشي الذي عاد بالسجون المصرية إلي عصر " حمزة البسيوني " وصفوت الروبي "
المظلم والمرعب .
دخلت الدولة وأجهزتها الأمنية في دورة عنف رسمي مقيتة ضد معتقلين في يدها يفترض أنها الأمينة
عليهم ، ولكنها شنت ضدهم أسوأ أشكال العنف والتعذيب المنهجي الذي يقصد لكسر
الإرادة وغسيل المخ والتوقيع بالإكراه علي ما تريده الدولة من المعتقلين السياسيين
، ولم تتوقف التقارير الحقوقية الموثقة من كافة المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية
عن رصد الانتهاكات المنظمة من قبل أجهزة الأمن المصرية لحقوق المعتقلين السياسيين
المسجونين تحت سلطتها وفي قبضتها بدءاً من حالات الاختفاء القسري
وتهديد الحق في الحياة بسبب الإهمال الطبي ومنع الانخراط في التعليم للطلبة ومنع
الزيارات عن المسجونين وذويهم ، فيما وصف بأنه انتكاسة خطيرة في أوضاع السجون
المصرية والمعتقلين السياسيين بها منذ أوائل التسعينيات
وحتي 1997 م حين بدأت البواكير الأولي للمراجعات
الفكرية للجماعة الإسلامية المصرية والتي تراجعت فيها بشكل كامل عن منهجها في
العنف وعن فقهها وأفكارها التي تبرر المواجهة مع الدولة المصرية .
وبدأت السجون المصرية تسترد بعضاً من أنفاس الراحة ولكن ظل التمييز في
المعاملة داخل السجون علي الأفكار فيما يشبه محاكم تفتيش قاسية ، وظل أولئك الذين
يرفضون التعاطي مع مبادرات فكرية تطلبها منهم أجهزة الأمن يعاملون بقسوة بالغة
وصلت لحد أن بعضهم لم يزره أهله بشكل طبيعي منذ عام 1993 م وحتي
اليوم ، وتشير معلومات موثوقة إلي أن أكثر من نصف مليون حكم قضائي صدر بالإفراج عن معتقلين
سياسيين ولكنه لم ينفذ ، كما أن مئات الأحكام القضائية صدرت ضد وزير الداخلية بسبب
منع أهالي المعتقلين من زيارتهم .
وتحدثت المصادر المراقبة لأوضاع المعتقلين السياسيين المصريين إلي أن أعداد
المعتقلين السياسيين وصلت في ذروة المواجهة بين الدولة والجماعات الإسلامية
المسلحة إلي أكثر من 30 ألف معتقل وصلت الآن إلي حوالي 15 ألف معتقل
.
وتؤرق ظاهرة المعتقلين السياسيين وأسرهم ( الأمهات والزوجات والأولاد ) الضمير
الإنساني المصري خاصة وأن أقارب المعتقلين
في ظاهرة هي الأولي في التاريخ المصري اعتصمن بنقابة المحامين لمدة أربعة أشهر
متواصلة وخرجن متظاهرات من أجل المطالبة بالإفراج عن أولادهم ، وفي الأسبوع الماضي
دشنت" المبادرة الوطنية" للإفراج عن المعتقلين السياسيين بيانا وقع عليه
أكثر من مئة شخصية مصرية من كافة ألوان الطيف السياسي طالبوا جميعاً بالإفراج عن
كافة المعتقلين السياسيين وإلغاء قانون الطوارئ واعتبروا الحديث عن أي إصلاح سياسي
بدون الإفراج عن المعتقلين هو كلام بلا معني .
ومع حديث رئيس الوزراء المصري عن استبدال قانون مكافحة الإرهاب بقانون
الطوارئ يضع المصريون- الذين يناضلون منذ عام من أجل وطن بلا طوارئ- أيديهم علي صدورهم خوفاً من تحويل حالة الطوارئ
الاستثنائية إلي حالة طبيعية مع قانون مكافحة الإرهاب .
لقد وضعت القوانين الاستثنائية شرعية النظام السياسي المصري دائماً موضع التساؤل ،فلا شرعية لنظام يحتمي بقوانين مكافحة الإرهاب أو
قوانين الطوارئ لاستخدامها ضد مجتمعه ومواطنيه لانتهاك حقهم في الحرية والمواطنة
وحكم القانون الطبيعي الذي يسري في مواجهة الجميع .
مشكلة النظام السياسي المصري الآن أنه أدمن العمل في حماية قوانين
استثنائية ( طوارئ – مكافحة الإرهاب ) ، ومن ثم فهو غير قادر علي أن يتعامل مع
آمال وطموحات المواطن والمجتمع المصري في نظام سياسي يستند في شرعيته إلي حكم
القانون بعيداً عن حالة الطوارئ والخطر ، النظام السياسي المصري يجدف بمجاديف مهترئة في مواجهة تيار شعبي ومجتمعي لا يمكنه القبول بأن يحكم
في القرن الواحد والعشرين بنظام يعود نظام تفكيره إلي مابين الحربين حيث كانت
تنتعش الأيديولجيات الفاشية الاستبدادية ، ولذا ستظل
أزمة الشرعية تتفاعل بعمق داخل بنية النظام بحيث تجعله يزداد اغتراباً وشخصنة عن مجتمعه وهو ما يفتح الباب واسعاً لاحتمالات خطر لا
يمكن السيطرة عليها في ظل تضاؤل الأمل في إمكانية استجابة النظام لصوت مواطنيه
الذين يصرخون منذ عام كفاية طوارئ .. كفاية قوانين استثنائية .