رحل الرجل ولم يخن وطنه!

 

 

 

بقلم :ناصر السهلي

 

أعرف أن الموت يتسلل إلينا كما تتسلل إلى بيوتنا وثنايا حياتنا دولة غاصبة بكل ماتمثله من رمزية تدهش العرب جميعا... فيبحث بعضهم عن التماهي مع من يقف وراء مشهد التسلل هذا.. بهدوء يتسلل إلينا...وبخطوط متعرجة ومناورة  وخبيثة...

كان "يجلس على أريكته" وبيده لفافة تبغ ، حين قتله قلبه الذي ظل ينبض ويخفق هبوطا وصعودا لحالة أمة كسرت عيدانها وسيوفها الخشبية منذ أن تعرفنا إلى كلماته القلقة ... السهلة، المفهومة لمن أراد أن يفهم أي إنسان ظل يبحث عنه "الماغوط" في كتاباته التي ولدت معجبين، وولدت الكثيرين من الذين لم يفهموا معاني "سأخون وطني"... ولا "كاسك ياوطن"... الوطن الذي منغرسا في حياة القلق والارق والاختلاف التي عاشها مبدع على شاكلة الماغوط...

 

رحل الماغوط الذي تقدم على  زمن غيره ورموز الآخرين الذين ظل الخوف يتملك  من أقلامهم وقلوبهم...ربما إرتجفت يده في سنوات المرض... إلا أنه بقي الساخر المحفز للعقل كي يخرج من أسره... سرق منه من سرق وحرف نصوصه من حرف... لكن قلبه ظل يخفق لوطن وإنسان ، أحبه أكثر من حبه له...

 

يؤسفني أن أقول ثانية وثالثة، نحن العرب لا نعرف قيمة ما نملك قبل أن نفقد ما كنا نملك... ويبقى العزاء أننا في زمن آخر، لا تحرق فيه ، أو لم يعد أحدا قادر على حرق أوراق هؤلاء الذين رحلوا عنا وهم ينظرون إلينا بعيون ساخرة لما وصلنا إليه من إنهيار في القيم والمبادئ التي تُعتبر تخلفا إن لم تلحق بقطار الاتجاه الواحد في لحظات تساهم في صناعته أقلام العولمة الموحشة وقنواتها التي تتسلط على عقل الانسان العربي...

الانسان الذي بات يقبل المبتذل نتيجة تعويد وتدريب إختاره وبعناية حلف من سياسة فاسدة وأدب أُفسد على طاولة الوهم  في صناعة إنسان يلهث صباحا ومساءا عن رغيف خبز وإنتصار زائف...

 

يا للموت الذي لا مفر منه... أخذ منا في السنوات الأخيرة عبد الرحمن منيف وغالب هلسا وهشام شرابي واميل حبيبي وغيرهم ....

هاهو اليوم سحب وبقوة وعنف محمد الماغوط، الحر من قيود الجوائز والتكريمات ... ربما لم يقرأه الجميع ...لكنهم شاهدوه في أعمال فنية ولوحات كانت تهز وبقوة المكنون الذي لم يتعرف بعد إليه إنساننا المحصور هناك بين أن يكون إنسانا وأن يكون كائنا يجرجر ذيل حاجاته التي لا تنتهي في بلداننا التي صار فيها أبنية شاهقة وإنسانا مقزما ...

 

عاشقا مات الرجل...محبا لوطنه الذي لم يخنه كما نرى في خيانات يستسيغها سهلة بعض"نا" الذي يبحث عن ذاك التماهي الذي ينظرون له تحت سقف الحجج والمبررات التي باتت أكثر إنتشارا من إنتشار "رذيلة الانتماء" للأوطان التي حولتها صيغ هؤلاء إلى دكاكين وسوبرماركات وأسواق تنهش الخيارات وتبقي على منفذ واحد متمثل في التقليد...

 

رحل الماغوط متمردا... لم يأبه كثيرا لمن إختلف أو إتفق معه... لكنه كان بشر ..حز في نفسه أن يختلف معه من أدوا أدوارا في وقت كان مطلوب فيه أن تنتشر أركوزات سميت "إبداعا"...

وداعا يقولها وطنه الكبير، كما تقول له السلمية، يلحق بزوجته الشاعرة التي بقيت تسمع له نثره وشعره ومسرحياته ترتب له هدوء فوضويته ... وداعا من نوع آخر ربما يفتح أفق التعرف من جديد على كنوز لا يعرف قيمتها الوطن العربي ، رجالا ونساءا، قبل أن يرحل المبدع وتجمع أوراقه المتناثرة حبا وعشقا لوطن أبعد من الوطن السوري...

رحل الماغوط ولم يخن وطنه! في زمن التفاخر بالخيانة ...

 

سنكتشف في الزمن المتأخر بأننا نحن العرب نفقد عقولنا الواحد بعد الآخر ... بينما يعتلي المسرح عقولا لا تمت لنا إلا باللغة والاستماتة في تغييب واستلاب ما تبقى لدينا من بعض عقل...

 

تحية لروح الرجل الذي رحل و لم يخن وطنه... للرجل الذي لم يغادر مبادئه... لإبن السلمية التي أنجبت ما أنجبته من أدمغة مبدعة.. ومنهم أستاذي للغة الانكليزية الذي دخل علينا في ثانوية اليرموك مبتدءا بتعليمنا ترجمة "لو كان حبك يا فلسطين جريمة فليشهد التاريخ أنني أول مجرم".... مدهوشا كنت لمدرس آت من السلمية لم يبدأ معنا إلا من حيث أدرك إرتباط درسه بمبادئه... ثم ما لبث أن إختفى.... تماما كما إختفى فجأة المبدع الذي لا ينسى محمد الماغوط في وطن شرب أبناء شعبه حليب الانتماء العروبي منذ الفتح الاول... وهي لن تخيب ظن الماغوط بعيد إكتشاف كم كان منتميا لوطنه النقي الذي  قبله منتصرا ومنكسرا... قبله كما هو.... واقعا ومُتخيلا...