هل صار تمييع الأحكام الشرعية  من مهام المراكز الإسلامية في بلاد الغرب

 

 

بقلم : عبد الآخر حماد

 

تابعت في الفترة الأخيرة قضية الشخص الأفغاني الذي ارتد عن الإسلام واعتنق النصرانية ،والذي حكمت محكمة أفغانية أخيراً بإخلاء سبيله بعد ضغوط متزايدة من قبل قادة الغرب والفاتيكان والنظام العميل في أفغانستان.

ولست أريد الحديث هنا عن موقف العالم الغربي وزعيمته أمريكا التي تدخَّل رئيسها بنفسه من أجل الحفاظ على حياة ذلك المرتد ،في الوقت الذي يعرف القاصي والداني ما فعلته وتفعله جيوشه من تدمير وسفك للدماء وقتل للنساء والشيوخ والأطفال ،في أفغانستان والعراق وغيرهما من بلاد المسلمين ؛فقد صارت تلك الازدواجية سمة بارزة من سمات تعامل أولئك القوم مع قضايانا العربية والإسلامية.

كما أنني لن أتحدث عن انتهاك تلك الضغوط الغربية لاستقلال القضاء ،وتدخلها في الشؤون الداخلية لأفغانستان ،ففي ظل حكومة عميلة تساندها قوات محتلة ،يبدو ذلك التدخل أمراً عادياً متسقاً مع منطق الأمور وطبائع الأشياء .

إنما الذي أثارني في هذه القضية هو موقف بعض الهيئات الإسلامية في بلاد الغرب ،فقد أصدر ما يسمى بالمجلس الأعلى للمنظمات الإسلامية في ألمانيا بياناً أثناء نظر القضية يناشد فيه العدالة الأفغانية صرف النظر عن معاقبة ذلك المرتد .

ومما جاء في ذلك البيان أنه إذا كان هناك علماء مسلمون لا يجوزون تغيير الدين ،فإن هناك علماء آخرين يجزمون بجواز ذلك في زماننا ؛لأن النهي عن تغيير الدين كان في زمن كان المسلمون فيه في حالة حرب مع غير المسلمين ،فكان تغيير الدين في ذلك الوقت بمثابة الخيانة العظمى أو الهروب من الجيش أثناء القتال ،وعليه فقد أخذ هذا المجلس برأي هؤلاء الأخيرين ،وأشار بيان هذا المجلس أيضاً إلى أن دستوره ينص في مادته الحادية عشرة على أن المجلس يقبل حق المسلم في تغيير دينه إلى دين آخر ،أو حتى إلى لا دين .

وبداية فإني أود أن أشير إلى أن خطورة مثل هذا الكلام -الذي اهتمت به أجهزة الإعلام الغربية وأبرزته – تنبع من أن هذا المجلس يقدم نفسه وتقدمه كثير من أجهزة الإعلام الألمانية –حين الحاجة إليه فقط - على أنه يمثل عموم المسلمين في ألمانيا .

ثم إنني أود أن أشير في عجالة ودون دخول في كثير من التفاصيل إلى ما تضمنه البيان المذكور من مغالطات شرعية لا يمكن قبولها ولا السكوت عنها فأقول وبالله التوفيق :

أولاً : إن تجريم الارتداد عن الدين الحنيف حكم ثابت بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين ،قال تعالى : ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) .[البقرة: 217].

     وإن عقوبة هذه الجريمة في الإسلام معروفة ، بينها النبي صلى الله عليه وسلم  بقوله : ( من بدل دينه فاقتلوه ).[ أخرجه البخاري (3017) ، (6922) وأبو داود (4351) والترمذي (1458) ،والنسائي (7/104) وابن ماجه (2535) من حديث ابن عباس ].

وعن عثمان  رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس ). [أخرجه أبو داود (4502) والترمذي (2158) والنسائي (7/90) وابن ماجه (2533) وإسناده صحيح].

     وأهل العلم مجمعون على عظم أمر الردة ،وعلى أنه لا يعدلها ذنب من الذنوب ،قال ابن عبد البر عند الكلام على حديث من بدل دينه فاقتلوه : (( وفقه الحديث أن من ارتد عن دينه حل دمه وضربت عنقه ، والأمة مجتمعة على ذلك ، وإنما اختلفوا في استتابته ؛ فطائفة منهم قالت لا يستتاب على ظاهر الحديث ويقتل ، وطائفة منهم قالت يستتاب )). [التمهيد (5/306) ].

ولا يعرف لهذا الحكم مخالف إلا أن هناك قولاً لإبراهيم النخعي رحمه الله يرى أن المرتد يستتاب أبداً ،وهو قول مردود لمصادمته الحديث الصحيح ،قال ابن قدامة في تعليقه على قول النخعي : (( وهذا يفضي إلى أن لا يقتل أبداً ،وهو مخالف للسنة والإجماع )).[ المغني مع الشرح الكبير 10/75] .

ومع شذوذ هذا الرأي إلا أنه لا يعني عدم تجريم الردة ،وإنما غاية ما فيه أنه لا يرى عقوبة القتل حتماً لازماً ،لأن قوله : يستتاب أبداً معناه أنه قد ارتكب جرماً، وهل يستتاب إلا من ذنب؟ أما هؤلاء القوم فيرون أن الردة لا تمثل جريمة أصلاً ،وأنه لا يصح أن يعاقب عليها بأي نوع من العقوبة كبرت كلمة تخرج من أفواههم عن يقولون إلا كذباً.

ثانياً : يذكر أصحاب البيان المشار إليه أنهم يستندون في قولهم هذا إلى ما زعموه من أن فريقاً من أهل العلم يرون أن المنع من الردة كان قد شرع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأسباب خاصة ،وليس حكماً عاماً مستمراً إلى يوم الدين ،وهم في افترائهم هذا لم يقولوا لنا من هم العلماء المسلمون الذين قالوا بهذا القول الباطل ،فهلا ذكروا لنا عالماً يعتد بعلمه قال بهذا القول؟ إن الذي نعلمه أن العلماء في القديم والحديث متفقون على هذا الذي ذكرناه ،وهذه المجامع الفقهية والهيئات العلمية المعتد بها في العالم الإسلامي مجمعة بحمد الله على تجريم الارتداد عن دين الإسلام ،حتى العلماء الرسميون الذين يصنفهم البعض على أنهم علماء السلطة لا يخالفون في ذلك ،وقد كنت أراجع قريباً بعض ملفات قضية مقتل فرج فودة ،فوجدت من ضمنها تقريراً لشيخ الأزهر الحالي (وقد كان وقتها مفتياً ) ورداً من لجنة الفتوى بالأزهر على شهادة الشيخ الغزالي رحمه الله في تلك القضية ،وما وجدت فيهما أي مخالفة في تجريم الردة وأن عقوبتها القتل ،وإن كان فيهما أنه ليس لأحد أن يقيم حد الردة إلا الحاكم ،وهذا لا ينطبق على الحالة التي نحن بصددها الآن .

إن الذي أظنه والله أعلم أن القوم قد استندوا في زعمهم هذا إلى بعض الكتابات المعاصرة التي يتولى كبرها طائفة من العصرانيين الذين يزعمون التجديد في الدين ،وهم أبعد شيء عن فهم هذا الدين ومعرفة أصوله ،بل إن غالبيتهم ليسوا من المتخصصين في العلوم الشرعية ،وإنما ساعدهم في بث سمومهم تلك الفوضى التي يعيشها المسلمون ،والتي جعلت الدين كما كان يقول الدكتور عبد المنعم النمر رحمه الله هو (الحيطة الواطية) التي لا يشاء أحد أن يتسلقها إلا فعل ، وما أشبه الفكرة التي اعتمد عليها أصحاب البيان المشار إليه بفكرة وقتية الحكام التي يروج لها أناس كسعيد العشماوي الذي يدعو إلى محاولة قصر تطبيق الأحكام الشرعية على مثل الجو الذي شرعت فيه ويقدح في قاعدة (( أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ))،فيرى مثلاً أن نظام الميراث الإسلامي إنما جاء بهذه الصورة ليناسب عصر القبيلة الذي كان سائداً وقت التنزيل ،أما الآن فقد تغير الحال ووجب تغيير قواعد الميراث .

فهذا الكاتب وأمثاله يمكن أن يصدر عنهم القول الذي أشار إليه أصحاب البيان المشار إليه ،أما أهل العلم والدين الواقفون عند حدود الله فلا يمكن أن يصدر عنهم هذا الهراء. 

ثالثاً : إن النصوص المجرمة للردة ليس فيها من قريب أو عيد ما يشير إلى أن ذلك كان معللاً بعلة الحروب والمواجهات التي أشار إليها من زعم أصحاب البيان أنهم فريق من العلماء ،بل جاء الحكم عاماً كما أشرنا إليه في النصوص التي أسلفنا بعضها ،وعلى ذلك فلوا افترضنا جدلاً أن هناك ممن ينتسب إلى العلم الشرعي من قال بهذا القول المفترى فإن الواجب علينا رد قوله وعدم الاعتداد به ،لأنه يخالف النصوص الصريحة الواضحة من كتاب ربنا وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم .

وليس كل خلاف جاء معتبراً  *   إلا خلاف له حظ من النظر .

رابعاً : إن من أعجب العجب أن نرى أمثال هذه الهيئات تسارع في إرضاء الغرب ومحاولة مسايرة سياساته ، بينما يغضون الطرف عن الظلم البين الذي يقع على المسلمين في بقاع الأرض ، فإني لا أذكر مثلاً أنه كان لهذا المجلس المشار إليه أي موقف تجاه قضية إخواننا المضهدين منذ سنوات في جوانتينامو ،ولا من قضية الشيخ الجليل عمر عبد الرحمن وما يعانيه في سجنه منذ ما يقارب خمسة عشر عاماً في سجون (العدالة ) الأمريكية، بل لم نسمع لهم صوتاً تجاه قضية الداعية اليمني الشيخ المؤيد الذي سلمته ألمانيا إلى أمريكا فحكمت عليه ظلماً وعدواناً بالسجن خمسة وسبعين عاماً .

فأي الفريقين أحق بأن تدافعوا عنه وتتبنوا قضاياه يا من تزعمون أنكم تمثلون المسلمين في ديار غير المسلمين.