ليست قضية رموز دينية فحسب..

 

 

 

بقلم :د. إبراهيم علوش

 

لعل أسوأ طريقة في التصدي لنشر الصحف الأوروبية رسومات تتعرض لمقام الرسول عليه الصلاة والسلام هي تحويل القضية برمتها إلى مشكلة تجاوز على المقدسات الدينية فحسب.

 

إذ يبدو أن البعض يظن أن الدفاع عن الإسلام يتطلب الاقتصار على طرح البعد الديني فحسب، كهجومٍ على الإسلام، بينما طرح المعركة على هذا الأساس بالحصر يفقدها مضمونها وجوهرها الحقيقي. فالعدوان الأخير على الإسلام لا يمكن فهمه خارج سياق الصراع الدنيوي بيننا وبين قوى الهيمنة الخارجية، أي صراعنا كأمة، والمستضعفين في الأرض، هنا والآن، ضد منظومة الإخضاع والتفكيك والاختراق، وقبل كل شيء طبعاً، صراعنا كأمة ضد الاحتلال بكل أشكاله، ومن ثم ضد العنصرية التي ترشح من مسامات الغرب.

 

فإذا وضعنا قصة الاحتلال جانباً، أي الصراع ببعده الدنيوي، القومي بالتحديد، يصير هيناً على واشنطن ولندن عندها أن تدينا نشر الرسوم الكاريكاتورية في الدنمارك، كما فعلتا، مما يتيح لهما أن تسجلا نقاطاً سياسية سهلة على حساب دولة ثانوية، وأن تضحكا بالتالي على ذقوننا بإدانة نشر الرسوم المشينة، ما دامتا تسيطران على مقدرات المعمورة والعرب.

 

لا، لا يجوز أن تتحول القصة إلى قصة خلاف حول طريقة التعاطي مع الرموز الدينية في مجتمع غربي لا يقيم وزناً للمقدسات أصلاً، وسبق ان انتجت هوليوود مثلاً فيلماً بعنوان «الإغراء الأخير» عن «يسوع» المسيح عليه السلام يحتوي مشاهد إباحية...

 

فإذا أصبحت القضية قضية رموز دينية فحسب، بلا جذور ولا خلفيات ولا تاريخ، ودون الالتفات لأسئلة الصراع السياسي والاجتماعي من نوع: من يسيطر على الأرض؟ من يتخذ القرار السياسي؟ من يتحكم ويستفيد من ثروات الأمة؟ يصبح هيناً عندها على من يستضيفون قواعد عسكرية أمريكية أو بعثات دبلوماسية «إسرائيلية» على أرض المسلمين أن يتصرفوا كأنهم حماة حمى الإسلام الذين لم يبزهم خالد أو صلاح الدين ... في قضية الدنمارك.

 

المقياس بسيط: إذا جاء الموقف من نشر الرسوم المعيبة في الدنمارك من جهات أو شخصيات معروفة بموقفها الحازم من الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، ومن الاحتلال اليهودي لفلسطين، ومن القواعد العسكرية الأمريكية في الوطن العربي، ومن الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبت ضد الإسلام والمسلمين في غوانتنامو وأبو غريب والمسجد الأقصى، وعشرات الأمثلة الأخرى التي ينتهك فيها الإسلام أرضاً وثقافةً وأمة، فإن الذود عن الرسول عليه الصلاة والسلام عندها يصبح استمراراً منطقياً لنهجٍ يحرص على الإسلام فعلاً.

 

وعندها يكون الدفاع عن الإسلام متجذراً في الموقف الوطني والقومي، هنا والآن، في هذه الدنيا، وفي هذا الصراع ضد الطرف الأمريكي-الصهيوني وأذنابه. وبدون هكذا موقف سياسي ضد قوى الهيمنة الخارجية وممارساتها وعنصريتها، يفقد الدفاع عن الإسلام جوهره، ويتحول إلى موقف سطحي، أي إلى قضية حرص شرقي على المساس بالرموز الدينية والمقدسات مقابل مفهوم حرية التعبير الغربي الذي لا يقيم وزناً للمقدسات... إلا إذا كانت مقدسات دنيوية طبعاً مثل جماعة اليهود والمِخرقة!

 

فليس من المفهوم أن يطبع أو أن يتهاون البعض مع العدو الصهيوني والإمبريالية الأمريكية، أو أن ينسق معهما أمنياً وعسكرياً وتجارياً وثقافياً وسياسياً، ليغسل كل ذلك بالدعوة لمقاطعة الدنمارك!!!! وليس من المعقول أن تصبح قضية الرسوم الكاريكاتيرية، بعد خمسة أشهر من نشرها، شماعةً تعلق الأنظمة العربية وأمريكا وبريطانيا كل خستها السياسية عليها، ومنقذاً لمصداقيتها. وليس من الطبيعي أن يتأفف البعض من الدعوة لمقاطعة المنتجات الأمريكية و«الإسرائيلية»، ليندفع بعدها لمقاطعة الدنمارك، مع العلم أن هوليود هي مصنع تشويه العرب والمسلمين، لا في رسومات فحسب، بل بأفلام كاملة. فلو كانت مقاطعتنا بحجم الجريمة والانتهاك، لتوجب أن نقاطع الكيان الصهيوني وأمريكا أولاً وحليفتها بريطانيا بجريرة عقود من الجرائم ضدنا التي لا تعد ولا تحصى.

 

وليكن واضحاً أن الدنمارك شاركت بقوات في العدوان على العراق، وأن هذه القوات ما برحت تجثم على أرض العراق، وقد مدد البرلمان الدنماركي لها مؤخراً حتى تموز 2006، كما أن المحققين الدنماركيين شاركوا في التعذيب في سجون العراق، ومن الواضح أيضاً أن الرسومات الكاريكاتيرية تعبر عن احتقار المستَعمِر للمستعمَر أكثر مما تعبر عن أي شيء أخر. ولكن بالـتأكيد سيبدو طريفاً لبعض الغربيين كيف يصمت بعضنا عما حدث في مساجد الرمادي والفلوجة والمسجد الأقصى وغوانتنامو ليتظاهر بالحرص على الإسلام الآن. فهل كان سيدنا محمد ليقبل هذا؟! .