النموذج الانتفاضي الفلسطيني والدرس الديموقراطي

 

 

 

بقلم :عزالدين العزماني*

 

انتصار كبير ذلك الذي حققته حماس، وتحول كبير في منطق التعاطي مع القضية الفلسطينية والنظر إليها من قبل كافة الأطراف فرضته على أرض الواقع، إذ الأمر لا يقف عند حدود انتصار سياسي تحصيلي للانتصارات العسكرية المتوالية التي فرضت الانسحاب الإسرائيلي من غزة، بل يتعداه إلى مستوى تأكيد القوة التصورية لخط حماس وشرعيته المجتمعية المؤكدة لتناغم حماس مع الخيارات الحقيقية للشعب الفلسطيني، وهنا تتحصل لدينا قاعدتين أساسيتين، وتتكسر أخرى.

ميزان الإرادة هو الأصل:

القاعدة التأسيسية الأولى، تؤكد أن "ميزان الإرادة" أكثر صلابة من "ميزان القوى"، وأنه كلما كانت الحركة السياسية متناغمة قيميا وإيديولوجيا مع الحركة المجتمعية الشاملة نتج عن ذلك تغيير إيرادي موسوم ب"شرعية المصداقية" وأخلاق الممارسة السياسية الراشدة.

القاعدة التأسيسية الثانية، تبين أن منطق الإصلاح المطلوب شعبيا في العالم العربي برمته، يستبطن رفض المنطق الأمريكي القائم على الفرض والهيمنة، وأن الديموقراطية بطبيعتها قيمة أخلاقية قبل أن تكون معادلة سياسية محكومة بميزان القوى.

إن القاعدتين التأسيسيتين السالفتين، تكسران في اعتقادنا قاعدتين سائدتين في تمثلاننا الذهنية.

أسطورة التخطيط الإسرائيلي والأمريكي:

القاعدة الأولى التي ثبت تهافتها هي مقولة القوة التخطيطية الأسطورية للغرب و لأمريكا بالخصوص، فقد ثبت بالملموس أن التخطيط الأمريكي الإسرائيلي لضبط الحركة السياسية والمجتمعية الفلسطينية والتحكم في مآلاتها، ذلك التخطيط المسنود استراتيجيا والمدعوم بحركة أكاديمية وعلمية مواكبة لسياق التدبير الاستراتيجي، ليس بالضرورة بتلك "الأسطورية" و"الدقة السحرية" التي تصور لنا، خاصة في أدبياتنا المهووسة باسترجاع "المنطق الاستراتيجي الأمريكي" المؤكد للغلبة والتفوق الغربي، وأن هذا الاسترجاع يجب أن يكون دافعا لتأسيس التعاطي المنطقي (القوة)، وليس التكيف السلبي(الاستسلام)، وفي النتيجة الأولية فحركة الشعوب الحاملة لقيم سياسية أصيلة هي المقوم السياسي لصناعة أية تجربة ديموقراطية.

أزمة البراديكم الديموقراطي الأمريكي الجديد:

القاعدة الثانية التي انكسرت في الدرس الديموقراطي الفلسطيني هي تأكيد أزمة "البراديكم الديموقراطي الأمريكي الجديد"، القائم عل ثنائية "الإرهاب والديموقراطية"، فقد تأكد أن هذه الثنائية لا تستوعب منطق الديموقراطية الأصيل كونيا وثقافيا، فإذا كان الاختيار هو المحدد الأساسي لقيام الديموقراطية فإن  الشعب الفلسطيني في حالتنا اختار "حماس" ومنطقها السياسي، وهذا يدل على أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية من "حماس" هو موقف غير ديموقراطي، لأن القول بأن "حماس" إرهابية معناه أن الشعب الفلسطيني الذي اختار "حماس" في السلطة كله إرهابي، وتأكيد التمايز بين الخيار الديموقراطي الداخلي والخيار الديموقراطي الأمريكي المستبطن لديكتاتورية "الشروط المسبقة" يعطي مساحة تفكير للأنظمة العربية التي ظلت مندهشة أمام الإرادة الأمريكية للإصلاح في الشرق الأوسط، وأكدت أن إرادة الشعوب دائما هي الحاسمة.

ألم يتأكد في الموقف الأمريكي "دوخة فلسفية" حقيقية، ناتجة عن تداخل المنطق الكوني الأصيل للديموقراطية مع الموقف السياسي الأمني المرتبط بمفهوم النظام العالمي الجديد للديموقراطية؟؟ إذ يبدو أن الغرب قد نسي أصوله الديموقراطية، وأننا اليوم مع النموذج الفلسطيني نعيد بلورة القيم الديموقراطية قيميا وعمليا، وأننا نراجع الأدب الديموقراطي الكوني المجاوز لمنطق القوة الأمريكية.

فهل نسي الغرب المقولات الفلسفية المؤسسة للتصور الديموقراطي، مقولة السيادة الشعبية والتعددية والأغلبية وغيرها؟؟.

إن الموقف الأمريكي من "حماس" إما أن يدفعها إلى مراجعة أدبيات الفلسفة السياسية المنتجة لمفهوم الديموقراطية، أو الاستمرار في منطق القوة والاستبداد الفكري والسياسي.

إنه ليس فقط مأزقا سياسيا بل نقيضة منطقية وفلسفية  عويصة؟؟

لماذا الانبهار العربي في فقه التحول؟؟

لكن مرة أخرى لماذا هذا التعاطي الفكري "المتخلف" مع التحولات الإيجابية المضيئة في مسرحنا الثقافي والسياسي العربي، لماذا تظل أدبياتنا وتحليلاتنا محكومة ب"منطق الأزمة" دون أن تبذل مجهودا في تجاوز الفهومات السلبية للتحول؟؟

نضع هذه الفكرة ونحن نعبر عن أسفنا من فكرتين سادتا في التعاطي مع هذا التحول الديموقراطي الرائد الذي يقدمه النموذج الانتفاضي الفلسطيني.

الفكرة الأولى، تلك التي عبرت عنها "حالة الانبهار" من التحول الديموقراطي في فلسطين، فالانبهار يعبر عن موقف من "حالة غير طبيعية"، فهل "الحالة الطبيعية" هنا هي استمرار "فتح" في الحكم بعد نصف قرن من الهيمنة السياسية؟؟ ألا تستبطن حالة الانبهار تلك سيادة منطق التفكير الاستبدادي في مخيالنا السياسي العربي، بالشكل الذي يضاد الثقافة الديموقراطية المؤمنة بالتحول والتناوب وحركية الشعوب الفكرية والسياسية في البحث عن البدائل والنماذج التغييرية الأصيلة؟؟

نعم، لقد أكد النموذج الفلسطيني قاعدة أن الاحتكاك اليومي بالسياسي le politique يولد نظرة سياسية متجذرة  ثقافيا وقيميا، وفق تقاليد المشاركة والقبول والاعتراف.

الفكرة الثانية، التي سادت في التحليلات بعد حالة الانبهار المشار إليها، هي القول بأن فوز "حماس" راجع لضعف وفساد السلطة التي كانت تقودها "حركة فتح"، وهذه مقولة نسبية.

صحيح أن الفساد في السلطة يولد الرغبة في التغيير والبحث عن المصداقية والنزاهة، لكن ذلك لا يجب أي يعمي بصيرتنا عن فهم النموذج التغييري الذي تقدمه حماس فكريا وسياسيا، والذي تجذر إيديولوجيا عبر مؤسسات سياسية واجتماعية ودينية أساسية (المسجد، مؤسسات الخدمة الاجتماعية، لجان الزكاة، جمعية الصلاح الخيرية..)، وعبر عن قوة سياسية ديناميكية تتحلى بالمسؤولية السياسية العالية، وأن يدفعنا في حركة تنظيرية أساسية لتجريد القيم السياسية المعبر عنها في هذه الحالة السياسية الفريدة في منظومتنا العربية، أي انتقال حركة سياسية معارضة من خارج النسق السياسي للقيام بدور السلطة والحكم، بشكل تشاركي مؤسس على فكرة "التعايش السياسي" وعلى قاعدة رؤية سياسية تقوم على مقومات الإيمان والإرادة والتخطيط العميق، قابلة للتجريب في العالم العربي وفق منطق أن قضايا الأمة والوطن هي قضايا "وجود أنطولوجي" لا "حسابات سياسية براغماتية".

نحو تحويل الديموقراطية إلى خيار مجتمعي:

في المحصلة فإن المطلوب سياسيا وجماهيريا إسناد قوي للتغيير القائم في فلسطين، ولكن المطلوب أيضا في العمق هو استخلاص الدروس الأساسية لتطوير ثقافتنا الديموقراطية ووعينا النظري والسياسي بمضمونها القيمي والاجتماعي، وفق جهد ذاتي مرتبط بالمجتمع، وبتعبير برهان غليون تحويل الديموقراطية إلى خيار مجتمعي.

ذلك هو الدرس الديموقراطي الفلسطيني، وللقوى الإسلامية والقومية والوطنية في العالم العربي العبرة.

 

 

----------------------------------------

* باحث في العلوم السياسية – جامعة القاضي عياض/ مراكش – المغرب

Azmani_salim@hotmail.com