حركة فتح من الولاء للثوابت والحقوق.. إلى الهيمنة وعصبية الانتماء

 

 

 

بقلم: أحمد الحيلة

 

عبَّرت حركة التحرير الوطني (فتح) منذ انطلاقتها عام 1965 عن تطلعات وآمال الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه المحتلة عام 1948، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها.

 

وتعزز هذا الدور بعدما فقد الشعب الفلسطيني كامل التراب الوطني إثر هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967، فكانت حركة فتح، إضافة إلى الحركات الفلسطينية الأخرى، المحضن الوطني الحركي القادر على استيعاب آلاف الطاقات الوطنية التواقة للعمل لفلسطين وباتجاهها عسكرياً، وسياسياً، وثقافياً..، خاصة بعد معركة الكرامة التي أبرزت حركة فتح رأس حربة في التصدي للاحتلال.

كانت حركة فتح في تلك الحقبة من مسيرة النضال الوطني متماهية مع حقوق الشعب الفلسطيني، منصهرة في الانتماء الوطني؛ ففلسطين الوطن لها الولاء والدم والنفس ومقدمة على ما سواها، وهذا ما جعل من الالتحاق بحركة فتح وأخواتها في الساحة النضالية سبيلاً للتعبير عن الانتماء لفلسطين والعمل لها.

 

هيمنة وعصبية:

 

إثر الدعوة لعقد مؤتمر دولي في جنيف بعد حرب تشرين أكتوبر عام 1973 لمناقشة الصراع العربي ـ الصهيوني، والذي استبعد م.ت.ف من الحضور، شرعت حركة فتح عام 1974، مخافة تغييب م.ت.ف عن التمثيل الوطني للفلسطينيين، في تبني مساراً وتوجهاً سياسياً مخالفاً للإجماع الوطني، ومجانباً لنصوص وروح الميثاق الوطني الفلسطيني، علّها تجد القبول الدولي والعربي.

 

وبدأت الحركة تروِّج لمشروع التسوية السياسية، ظناً منها أن التسوية، هي الطريق الأقدر على استرجاع الحقوق الفلسطينية، وهذا ما عُبّر عنه في حينه فيما عرف بالبرنامج المرحلي (برنامج النقاط العشر الذي تقدمت به الجبهة الديمقراطية نيابة عن فتح وبدعم وغطاء منها) الذي أدى إلى انقسام الساحة الفلسطينية وتشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع فصائل أخرى لما عرف بجبهة الرفض، متهمين حركة فتح بالتفريط بالحقوق والثوابت الوطنية.

 

ورغم فشل مؤتمر جنيف في حينه، إلا أن حركة فتح استمرت في تبني البرنامج المرحلي (برنامج النقاط العشر) ثمناً لاعتراف الدول العربية في قمة الرباط عام 1974 بـ م.ت.ف ـ التي تهيمن عليها حركة فتح ـ ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.

 

وانطلاقاً من هذا التاريخ 1974، يمكن القول: إنَّ الموقف السياسي لحركة فتح ـ المبرَّر بما يسمى الواقعية السياسية (الانبطاحية) ـ بدأ يصطبغ برؤية خاصة منبثقة عن ذاتية قيادة فتح وتوجهاتها وقناعاتها مبتعداً رويداً رويداً عن الموقف الجماعي الفلسطيني، بل يمكن القول:إنَّ فتح استعملت م.ت.ف لتمرير رؤيتها وبرامجها السياسية، واستغلتها لإضفاء الشرعية على مواقفها في ظل اختلال التركيبة التنظيمية للمجلس الوطني الفلسطيني لصالح حركة فتح.

 

وعلى هذه الخلفية، تراكمت مجموعة من العوامل الأخرى التي بدأت تعزز هيمنة وعصبية حركة فتح على حساب الثوابت وحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية. ونذكر من تلك العوامل على سبيل المثال:

 

سيطرة حركة فتح على ناصية القرار السياسي في م.ت.ف من خلال نسب "الكوتا" (المحاصصة) التي ضمنت للحركة أغلبية بمساندة عدد من المستقلين الذي يدينون لحركة فتح، اعترافاً منهم لها بجميل تعيينهم أعضاءً في المجلس.

 

تحكم فتح بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات بمصادر المال وأصوله، وجهة صرفه.

 

عجز بعض الفصائل في قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن منع حركة فتح من تمرير سياساتها وبرامجها التنازلية، الأمر الذي عزَّز الشعور بالاستعلاء لدى حركة فتح على الشركاء في الدم.

 

ضعف وتراجع الأداء العسكري المقاوم ضد الاحتلال، الذي كان يمثل أحد أهم القواسم المشتركة في الثورة الفلسطينية والعامل الموحِّد لفصائل المقاومة.

 

نشوب الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 والتي شاركت فيها حركة فتح والفصائل المنضوية تحت لواء م.ت.ف، عزَّز العصبية وروح التفرد والولاء الحزبي والطائفي كثقافة شائعة انعكاساً لواقع الحرب في لبنان.

 

وبسبب هذه العوامل وغيرها، تعززت العصبية الفتحاوية التي هيمنت وتفردت بالقرار على مدار ثلاثة عقود خلت منذ نشأتها، وكان ذلك في اتجاه معاكس للثوابت والحقوق الوطنية التاريخية التي تبنتها منذ التأسيس وشاركت في تكريسها من خلال صيغة الميثاق الوطني الفلسطيني.

 

 

عَودٌ على بدء:

 

عانت حركة فتح من الضعف والتراجع بعد الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان عام 1982 وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وبسبب تعرضها في الإثر للانقسام والاقتتال الداخلي بين فتح "الانتفاضة" أبو موسى، وفتح أبو عمار، ومن ثم تنازع الشرعية بين جناحي الحركة أو شطري الحركة الأم.

 

ولكن حركة فتح (أبو عمار) وجدت في انتفاضة الحجارة عام 1987 مخرجاً لها من عزلتها في تونس، ومركباً لعودتها إلى الساحة السياسية.

 

فبرغم ضعفها، إلا أنها كانت ما تزال تعد نفسها الوريث الأكبر لمنظمة التحرير الفلسطينية الحائزة على الشرعية العربية في قمة الرباط عام 1974.

 

لذلك سارعت الحركة لاستثمار الانتفاضة، وعقد المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 في الجزائر، وأعلن من على منبر المجلس وبلسان الرئيس الراحل عن "وثيقة الاستقلال" التي أقرت بمرجعية القرارات الدولية ذات الصلة، وبحق "إسرائيل" في الوجود عام 78% من أرض فلسطين التاريخية، إلى جانب دولة فلسطينية على ما تبقى من أرض محتلة. ("متنازع" عليها حسب قراءة الاحتلال لنص القرار الدولي المثير للجدل 242)

 

وتواترت التحركات السياسية، وانفردت حركة فتح فلسطينياً وعربياً بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، في الوقت الذي كانت فيه حركة حماس التي انطلقت مع انطلاقة انتفاضة الحجارة عام 1987 تتجذر في الشارع الفلسطيني وتزداد قوة بفضل عطائها المقاوم وتمسكها بالثوابت والحقوق الفلسطينية التاريخية، رافضة الاعتراف بالاحتلال ووجوده على أرض فلسطين.

 

 

واعتبرت فتح التي كانت ترى في نفسها الوريث "الشرعي" وصانع القرار، أن اتفاق أوسلو يعد انتصاراً فلسطينياً بفضل سياستها وواقعية برنامجها السياسي الذي طالما نادت به مخرجاً ومخلصاً وحيداً للشعب الفلسطيني من الاحتلال.

 

وبعودة فتح وقياداتها إلى الداخل حاملة البشائر بتحويل غزة إلى سنغافورة، وإقامة الدولة الفلسطينية السيدة الحرة، ارتفعت أسهمها وتضاعف رصيدها الجماهيري، وبالتالي تعزز تفردها وهيمنتها على المشهد السياسي الفلسطيني من جديد..

 

وأصبح المشهد الرسمي والمؤسسي فتحاوياً بامتياز، فقد همشت م.ت.ف بعد أن استعملت لإضفاء الشرعية على اتفاقات أوسلو وتوابعها، وانتزعت صلاحياتها ودورها الوطني الجامع لصالح مؤسسات السلطة الوطنية..

 

وأصبحت السلطة الوطنية في الضفة وعزة بمؤسساتها وأجهزتها الأمنية فتحاوية الطابع سياسياً ووظيفياً إلى حد كبير..

 

أصبحت السلطة فتح، وفتح هي السلطة وتداخلت الأمور ببعضها إدارياً ومالياً، وتعذر الفصل في كثير من المواضع..

 

أصبح كل ما تراه وتقرره حركة فتح يعد مصلحة للوطن، وأصبحت مصلحة الوطن بالتعاقد مع فتح..

 

بمعنى أخر، اختزلت المنظمة في السلطة، واختزلت السلطة في فتح

 

 

وهذا ما حول المشهد من ولاء للثوبت والحقوق الفلسطينية، إلى عصبية وانتماء لفتح المهيمنة التي تختزل الصورة في ذاتها.

 

ولذلك عندما تراجعت حركة فتح وبرنامجها التسووي في انتخابات المجلس التشريعي أمام حركة حماس وبرنامجها المقاوم بإرادة شعبية فلسطينية حرة ونزيهة، لم تكن فتح وما زالت، غير قادرة على استيعاب ما حدث لأنها اعتقدت أنها نهاية التاريخ الفلسطيني، وأن برنامجها هو الأوحد والأنسب رغم الفساد والظلم الاجتماعي والتفريط السياسي.

 

ورغم ما كشفته التجربة من ضرورة عودة فتح وانكفائها لإصلاح الذات بنيوياً وسياسياً على قاعدة المصالح والثوابت والحقوق الوطنية الفلسطينية التاريخية التي ما زال الشعب الفلسطيني يتمسك بها ويحاسب الآخرين على أساسها، إلا أن الحركة بعصبويتها الاستعلائية القاتلة، ما زالت تترفع عن الإصلاح، وتعاند وتنكر فشل برنامجها السياسي.

 

وما الأوضاع الأمنية المتفاقمة في الضفة وغزة بعد الانتخابات التشريعية، بدءً من الخطف والقتل المتعمد لعناصر حركة حماس، والاعتداء على ضباط الأجهزة الأمنية على أيدي مجهولين تارة، وعلى أيدي ما يعرف بفرقة الموت التابعة للأمن الوقائي تارة أخرى، مروراً بالاعتداء يوم الاثنين 12/6/2006 على المؤسسات الوطنية ورمز السيادة الفلسطينية بإطلاق الرصاص وإشعال النار في المجلس التشريعي ومجلس الوزراء في رام الله.. على أيدي عناصر ومجموعات تابعة لحركة فتح وللأجهزة الأمنية الموالية لها، وحدوث ذلك بالتزامن مع إصرار الرئيس "أبو مازن" على دعوته للاستفتاء على وثيقة "الأسرى" ـ حتى بعد ما انسحب كل من أسرى حركتي حماس والجهاد من الوثيقة ـ التي تخدم برنامج وخيار فتح السياسي، إلا محاولة انقلابية يائسة من حركة فتح على الشرعية والديمقراطية الفلسطينية، ـ يحركها روح الهيمنة والتفرد والعصبية ـ لإعادة الزمن إلى الوراء رغم حجم التغير والتطور الحاصل على الساحة الفلسطينية العصيَّة على الجمود.